أخبار عاجلةالأدب و الأدباء

الدكتور , عزوز علي إسماعيل يكتب ,,, غسان كنفاني وغادة السَّمان ( العاشق الثائر )

احجز مساحتك الاعلانية

لم تكن رسائل غسان كنفاني إلى غادة السَّمان التي كان يعشقها رسائل عاشق محبٍّ ولهان فحسب، بل كانت رسائل فكر وثقافة وحب من أجل الأرض التي نشأ عليها وأحبها، حيث التقى الحب والعشق والغرام مع الفكر ورفاق القلم الذين أحبهم غسان كنفاني، وكانت غادة السَّمان واحدة ممن سكن قلب غسان الثائر الذي بطشت به يد الغدر فقتلته في 1972 ولكنها لم تغتل فكره ورجولته التي لن تموت، من أجل ذلك كان إهداء كتاب” رسائل غسان كنفاني إلى غادة السَّمان” قد حمل هذا المعنى حيث قالت :”إلى الذين لم يولدوا بعد” أي أنها تعيد ذكرى غسان كنفاني في الأجيال القادمة الذين سيحملون تبعات الدفاع عن الأرض والوطن، ذلك الوطن الذي قال عنه غسان وعن حقه المسلوب الكثير والكثير:” سأظل أناضل لاسترجاعه؛ لأنه حقي وماضيَّ، ومستقبلي الوحيد؛ لأن لي فيه شجرة وغيمةً وظلاً، وشمساً تتوقد وغيوماً تمطرُ الخصب، وجذوراً تستعصي على القلع” إنه الوطن الذي يبحث عنه غسان كنفاني. وقد طلب غسان كنفاني من غادة السَّمان في إحدى رسائله أن تكون دائماً على تواصل مع المثقفين؛ لأنها تستحق وكتاباتها ملء السمع والبصر، حيث أرسل إليها رسالة يحثها فيها على الكتابة في مجلة المصور في القاهرة التي كان يرأس تحريرها أحمد جمال الدين، التابعة لدار الهلال ، فقد طلب منها أن تكتب مقالات وترسلها إلى مجلة المصور، وذكر لها بأن المجلة تعطي مبلغاً من المال للمقالات التي تُنشر فيها، وفضلاً عن ذلك فإن غسان كنفاني كان محباً للكتابة الرائقة التي تدافع عن الحق المسلوب، غسان كنفاني ذاق الأمرين في سبيل وصال غادة السَّمان التي كان يعشقها، وربما العشق يؤدي بنا إلى الإبداع كما كان الحال عند الشعراء العذريين وغيرهم، لذلك قالت غادة السمان عن محبوبها:” نعم كان ثمة رجل اسمه غسان كنفاني، يعز علي أن أرى الغبار يتراكم فوق وجهه، والعنكبوت بغزل خيوطه ببطء ولكن باستمرار، فوق حروف اسمه بالرغم من الجهود المباركه للجنة تكريمه، أخشى أن يغوص في لجة النسيان هو وكل ما كان يمثله، لا جائزة أدبية باسمه ولا شارع في مدينة عربية تخلده” هكذا عبَّرت غادة السمان عن الألم الذي اعتصر قلبها عن رحيل غسان كنفاني. لقد ترأس غسان كنفاني في رحلة حياته مجلة” الهدف” وقد رثاه الكاتب الكبير الشاعر وصديق الكفاح عز الدين المناصرة بعد اغتياله في قصيدة كان لها وقعها في السبعينيات حملت عنوان ” تُقبل التعازي في كل مكان” يقول في أولها:

لماذا إذا الوجه منك انحنى

نبيع الدموع لساقي الهموم

وما زلتَ في دمنا الصوتَ والسهل والمنحنى

عتاباً، خلعنا من الأرض، أحرفها الغارقة

سلاسل مبنية من شهيق سواعدنا في الكروم

غيوماً تلاحقنا في الغيوم

وقد عبر من قبل غسان عن الرجال الحقيقين لغادة السمان قائلاً: هناك رجال لا يمكن قتلهم إلا من الداخل، وفضلاً عن ذلك فقد عبَّر غسان كنفاني في أعماله الأدبية عن الألم الذي ذاقه وذاقه أهله من النازحين الفلسطينيين الذين تشردوا في كل مكان، ودائماً ما ترتبط الأرض بالغربة، سواء أكانت الغربة عن الوطن من أجل المال، أم أن الغربة عن الوطن بسبب المنفى، أو أنها كانت بسبب الاستعمار، فأصبحت الغربة مرتبطة بألم الأرض، وأصبحت الأرض مرتبطة بألم الغربة، سواء أكان في وقت السلم أم الحرب، ففي وقت السلم قد تكون محتلة من مجموعة من اللصوص أصحاب النفوذ، ففي هذا الوقت يشعر الإنسان بالاغتراب والغربة، وفي وقت الاستعمار يشعر المرء بالغربة، لأن هناك محتلاً قد أخذ أرضه، فيحاول دفع ذلك الاستعمار عن دياره، وبلده وكثيراً ما رأينا روايات حول الغربة، والألم وعن الأرض والألم وكانت رواية “رجال في الشمس” للكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، التي تعتبر الرواية الأولى له، حاول فيها تفريغ هم الألم الذي عاشته بلده فلسطين، خاصة بعد نكبة 1948، وتشريد الفلسطينيين هنا وهناك، ليذوقوا ألم الغربة، بعيداً عن أرضهم فارتبط من ثم ألم الغربة مع ألم الأرض المحتلة، التي أخرجوا منها، ويصف لنا الكاتب في هذا العمل الرائع شخصياته الأربع التي ذاقت ويلات المطاردة والهروب إلى أن استقر بهم الحال في الكويت مقتولين؛ أبو قيس، أسعد، مروان، أبوالخيزران، يقفون جميعاً مع ذلك المهرب الحاج رضا كي يحاول إدخالهم إلى الكويت، رغبة منهم في العمل فيها، وتكوين مال يستطيعون من خلاله سد حاجاتهم والعودة إلى وطنهم فلسطين المحتل يقول الكاتب في البدء: “هذا صوت قلبك أنت تسمعه حين لصق صدرك بالأرض. أي هراء خبيث! والرائحة إذن؟ تلك التي إذا تنشقها ماجت في جبينه ثم انهالت مهومة في عروقه؟ كلما تنفس رائحة الأرض، وهو مستلق فوقها خيل إليه أنه يتنسم شعر زوجته، حين تخرج من الحمام وقد اغتسلت بالماء البارد وفرشت شعرها فوق وجهه وهو لم يذل رطباً الخفقان ذاته”. ويعقب ذلك بفقرة عن الأرض وعظمة الأرض بقوله: “الأرض الندية – فكَّر – هي لا شك بقايا من مطر أمس… كلا أمس لم تمطر! لا يمكن أن تمطر السماء الآن إلاَّ قيظاً وغباراً.. نسيت أين أنت؟، أنسيت؟”. وكانت تلك البداية في معرض حديثه عن أبي قيس، الذي أراد أن يستريح وأن يستلقي على الأرض، فتذكر رائحة أرضه التي سلبها منهم اليهود وطردوهم شر طردة، وما زلنا نعاني نحن العرب من تلك النكبة السوداء وما أعقبها من الآلام على أهلنا في فلسطين وعلينا جميعاً، فرائحة الأرض تذكره برائحة شعر زوجته حين خروجها من الحمام وبه قطرات الماء.. ولكن الأرض هنا لم تعد السماء تمطر عليها. فالألم هو ألم الفراق فراق الأرض وليس فراقاً بمحض الاختيار، بل فراقاً رغماً عن النفس بسبب الاحتلال، الذي أضر البلاد والعباد، فأصبحوا في تيه يضربون الأرض؛ ليصلوا إلى مكان يأمنون فيه على أنفسهم.

ونرى كذلك غسان كنفاني في عمله الثاني “ما تبقى لكم” وهو يعزف على وتر النزوح من الأرض بل الهروب من الجحيم، يحكي غسان عن التهجير من فلسطين، حيث يقتل والد حامد ومريم فيلجآن إلى غزة، وتبقى الأم طريدة إلى أن تصل إلى الأردن، وهو الأمر الذي يجعلنا ننظر إلى العنوان، ونتساءل ما الذي تبقى للأولاد من وطن أو أهل يستندون إليه بعد مقتل الوالد ونزوح الأم إلى الأردن؟ ونكابد مع كنفاني الزمن والمكان في إطار اجتماعي صرف خاصة مع قضية الشرف حين ارتكب زكريا الخطيئة مع مريم ولم يتبق لمريم الأخ الذي هرب إلى الصحراء أو ذلك الذي حملت منه وتركها أو حتى جنينها. يبدأ الكاتب العمل بتسليط كاميرعلى المكان الذي تركوه، على فلسطين الوطن، على الشوارع على المدارس، على كل شيء عاشوا فيه، تركوه وهاجروا بآلام  يصعب حصرها فكان انعكاس ذلك في العمل من الناحية الاجتماعية حيث تشردت أسرة كاملة، والأسرة هنا هي رمز لتشرد الوطن، وما أدراكم  كيف تشرد الوطن؟ فكيف كان الارتباط بالوطن وما آلت إليه الأمور في الارتباط بالسياسة، يقول الكاتب: “عندها فقط عرف أنه لن يعود. وبعيداً وراءه غابت غزة في ليلها  العادي، غابت مدرسته بادئ الأمر، ثم غاب بيته، وانطوى الشاطئ الفضي متراجعاً إلى قلب الظلام، وبقيت أضواء الشوارع معلقة هنيهة، متعبة وواهنة، ثم انطفأت بدورها واحداً وراء الآخر، فخطا إلى الأمام تاركاً لخطواته أن تصدر فحيحاً مخنوقاً” تاركاً الوطن وما به من ديار وأماكن عاشها، إنه الألم الذي حاق به من كل جانب، آلام الفرقة والغربة عن الأرض التي نشأ عليها وألم اغتصاب أخته مريم من قبل زكريا ويُجبر حامد على تزويج أخته من ذلك المغتصب، ويظل يردد عبارات بعينها توحي له بالألم نحو “زوَّجْتُك أختي مريم ” ثم يودع أخته مريم وذلك الإنسان، ليرحل عنهما وعن الأرض تقول مريم:” ليس لي غيره، وقد تركناه يغادرنا كلنا دون كلمة واحدة، وحين كنت أسمع أصوات خطواته تخفق، مترددة، فوق السلم حسبت أنه سيعود وكنت ممزقة بينه، هو الماضي كله، وبينك أنت ما تبقى لي من المستقبل، ولكنني لم أتحرك وأنت لم تتحرك، وهو لم يعد”. وكانت الرمزية في تلك الرواية على مستوى عال فأخته المغتصبة هي أرضه المغتصبة، هي فلسطين وزوجها زكريا الذي لم يعبأ بما فعل، بل ولم يعبأ بحامد ولا بأخته هو ذلك المحتل الذي أخذ الأرض غصباً ولم يبال بأي فرد من أفراد الشعب الفلسطيني المسلوبة إرادته مثله في ذلك مثل مريم، واسم مريم يشير إلى الطهر والعفاف، ولكن هذا المغتصب قد دنس كل ما هو طاهر عفيف إنه الوطن الذي احتلوه واغتصبوه. فالمجتمع بأثره أصبح مدنساً من تلك الفعلة التي يهتز لها كل شيء، وأصبحت معالجة ذلك الفعل على غير ما يجوب بداخل حامد، فحاول أن يزوجها له ورأسه مطأطأة………. من أجل ذلك كله ومن أجل العشق عشق الجسد، عشق الإنسان، عشق الأرض عبر محمود درويش عن الألم الذي يقبع بداخل غسان ورفاقه عن الأرض :

سجل

أنا عربي

و رقم بطاقتي خمسون ألف.

و أطفالي ثمانية.

وتاسعهم سيأتي بعد صيف.

فهل تغضب

 

 

 

 

 

 

 

احمد فتحي رزق

المشرف العام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى